نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ما لا تقوله الكفاءات, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 11:31 مساءً
لا تخسر المؤسسات أفضل موظفيها بالصخب، ولا تودعهم عبر صراعات معلنة، بل تفقدهم على مهل، كما تفقد القيم حين يساء تقديرها: في صمت بطيء لا يلحظ إلا بعد أن يصبح الغياب واقعا، فالكفاءة الحقيقية لا تجيد الشكوى، ولا ترى في المطالبة بالاعتراف سلوكا مشروعا، بل تفترض بحسن ظن غالبا ما يكون مكلفا أن الجهد يرى، وأن الإخلاص لا يحتاج إلى تفسير، وحين يتكرر التجاهل، لا يحدث الانكسار دفعة واحدة، بل يتسلل على هيئة فتور داخلي، ثم مسافة غير مرئية، ثم قرار ينضج في هدوء.
في تلك المرحلة، لا يكون الموظف المتميز ناقما ولا ساخطا، بل فاقد للإحساس بالجدوى، فالإنسان لا يستنزف فقط حين يحمل فوق طاقته، بل حين يعطي دون أن يرى، وينتج دون أن يسمى أثره، ويخلص دون أن يجد صدى لذلك الإخلاص، هنا يتجاوز التقدير كونه مجاملة عابرة، ليصبح عنصرا جوهريا في العلاقة بين الفرد والمؤسسة، وبوصلة تحدد موقع الإنسان من المعنى قبل المنصب.
غير أن كثيرا من المؤسسات ما زالت تتعامل مع التقدير بوصفه لطفا أخلاقيا يمكن تأجيله، أو لفتة شكلية تمنح بلا ميزان، فتفرغه من قيمته حين تؤخره، وتبطل أثره حين تعممه، وتشوه معناه حين تساويه بين التميز والاكتفاء بالحضور، وحين يغيب هذا الوعي، لا يحتج أصحاب الكفاءة، بل يبدأون بصمت محسوب في البحث عن بيئة تحسن الرؤية قبل أن تحسن الطلب.
وهنا يظهر الفارق الدقيق بين قائد لطيف وقائد واع، فالقائد اللطيف حسن النية، يظن أن الصمت احترام، وأن الشعور بالتقدير أمر بديهي لا يحتاج إلى تصريح، وأن العدالة تكمن في المساواة المطلقة، لا يقصر عن قصد لكنه يغفل أثر التفاصيل، فينشئ بيئة مريحة، لكنها هشة، لا تحتفظ بالتميز ولا تحميه من التآكل.
أما القائد الواعي، فيدرك أن القيادة لا تقاس بحسن القصد وحده، بل بحدة الانتباه، يعرف أن كلمة تقال في وقتها قد تصنع ولاء طويل الأمد، وأن التقدير غير العادل أشد خطرا من غيابه، وأن الاعتراف حين يكون دقيقا يترسخ، وحين يكون عاما يتلاشى، لا يكثر الثناء، لكنه حين يثني، يربط الجهد بأثره، والإنجاز باسمه، والإنسان بمكانته الحقيقية.
ولأن المتميزين لا يجيدون المطالبة، فإن صمتهم يساء فهمه كثيرا، يحسب رضا، وهو في حقيقته انسحاب داخلي، وحين يصل الأمر إلى السؤال عن التقدير، يكون القرار قد اكتمل، لا بوصفه تهديدا، بل بوصفه نهاية طبيعية لمسار لم يجد فيه الإنسان ما يذكره بقيمته.
لهذا، لا تفشل المؤسسات في الاحتفاظ بمواهبها لقلة الموارد، ولا تخسرها بسبب الرواتب وحدها، بل لأنها لم تحسن النظر، فالفرق بين مؤسسة تراكم الخبرات وأخرى تستنزفها، ليس في الأنظمة ولا الشعارات، بل في وعي القائد بأن الإنسان، قبل إنجازه، يحتاج أن يرى... قبل أن يرحل بصمت.











0 تعليق